رقم الفتوى: 87747
عنوان الفتوى: نازلة كورونا وتزاحم الحقوق عند نقص الموارد الطبية
قسم: الآداب والأخلاق
مفتي: اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا
تاريخ الفتوى: 04/04/2020

السؤال

الأخلاقيات الطبية عن مسألة تزاحم الحقوق فيما يخص نازلة وباء كورونا، وما قد يحتاج إليه في بعض المشافي عند شح الموارد من اختصاص البعض بها دون البعض، كوضع البعض على أجهزة التنفس الصناعي دون البعض، أو غير ذلك من العلاجات


الإجابة

بسم الله الرحمن الرحيم

وردت إلى المجمع أسئلة من أطباء وباحثين في الأخلاقيات الطبية عن مسألة تزاحم الحقوق فيما يخص نازلة وباء كورونا، وما قد يحتاج إليه في بعض المشافي عند شح الموارد من اختصاص البعض بها دون البعض، كوضع البعض على أجهزة التنفس الصناعي دون البعض، أو غير ذلك من العلاجات. وبعد النظر والتشاور، أفتت اللجنة الدائمة للفتوى بالمجمع بما يأتي:

توطئة:

الله خالق كل شيء، بما في ذلك أفعال العباد، وهذا لا يعني عدم قيام البشر بأفعالهم. ونحن نؤمن بقدره خيره وشره، والشر لا ينسب إليه لكون ما خلقه مما هو شر من منظورنا خلق من أجل حكمة اقتضت وجوده، والله لا يأمر بالشر، وفعل الإنسان ما هو مأمور به لا يكون شرًا لا من جهة الحكم الكوني ولا من جهة الحكم الشرعي، فلا يكون شرًا البتة. 

الأفعال توصف بالخير والشر أو الحسن والقبح، والوحي كاشف عن هذه الأوصاف ومنشئ للتكليف بها. لكن الحسن والقبح ليسا صفات ذاتية للفعل، بل تختلف باختلاف الأحوال، فنفس العقوبة لشخصين بريء وجان تكون قبيحة في حق الأول وحسنة في حق الثاني. 

الناس سواسية كأسنان المشط، كلهم لآدم، فلا يميز أحدهم على الآخر إلا بسبب يجعل ذلك مقبولا. 

الواجب هو "تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها،" كما قال ابن تيمية - رحمه الله، وهذا المعنى تقرر في الشريعة، ويستفاد من استقراء ما قرره الأئمة كالغزالي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وغيرهم.

وحيث تقررت هذه الأصول، فإن الذي يظهر للجنة كونه مقتضى قواعد الشريعة هو ما يأتي:

"الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما يُبنى في الأغلب على ما يظهر من الظنون،" كما قال العز بن عبد السلام - رحمه الله -، فلا سبيل إلى اليقين في أكثر الأحكام، ولا حرج على الأطباء في بناء أحكامهم على الظن الغالب. 

عند شح الموارد الطبية والعجز عن إنقاذ جميع الناس، فلا يجوز تمييز أحد من الناس على أحد إلا بسبب يقتضي ذلك. من الاستثناءات النادرة هو أن من حكم عليه بالإعدام حكمًا نافذًا فيقدم عليه غيره ممن هو معصوم الدم، فكما أنه لا يفرق بين متماثلين، فلا يسوى بين مختلفين. 

العبرة في تفضيل بعض الناس على بعض هي الحاجة، فإن استوت الحاجة (كأن يحتاجوا التدخل جميعًا للنجاة من الموت)، فالعبرة برجاء الشفاء والبقاء، فمن كان أرجى شفاء قدم، فإن استووا، قدم الأصغر سنًا لكونه أرجى بقاء، وهذا مقتضى قاعدة "تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما." 

يقدم العاملون بالقطاع الطبي على غيرهم، كأن يقدموا في استحقاق معدات الحماية، لحاجتهم، أو يقدموا في العلاج هم أو غيرهم ممن يحتاج إليهم في الكوارث العامة، إن احتاج الناس إليهم وكان في فقدهم مع الضرر الخاص ضرر عام، فالقاعدة "احتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام." 

يقدم الأسبق إلى طلب العلاج، لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو له،" وعليه عمل الفقهاء، إلا أنه يستثنى من ذلك الحالات التي يؤدي فيها تقديم السابق إلى التدافع والعنف، أو يميز القادرين على السبق على غيرهم، فللحاكم عندها تقديم القرعة. 

عند تساوي جميع الاعتبارات السابقة، فالمصير إلى القرعة عند تزاحم الحقوق مما شهدت له الشريعة، وقد حكى الله قصة يونس واستهامهم لإلقاء أحدهم من السفينة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه." 

يجوز لبعض الناس الامتناع عن الوضع على المنفسة، إذا لم يترجح نفعها، فليس التداوي بواجب في أي من المذاهب الأربعة، ومن أوجبوه من الشافعية والحنابلة، فإنما عنوا به حالات معينة، وفي زماننا هذا، ومع تقدم الصناعة الطبية، وإعمالًا لقاعدة "لا ضرر،" يتجه القول بوجوب التداوي بالدواء المأمون (نسبيًا) والفعال من المرض المخوف على النفس أو الأعضاء أو المؤدي إلى زمانة وعجز، فإذا فقد بعض هذه الشروط فلا يجب.

عند عدم التزاحم، لا ينزع جهاز التنفس الصناعي من قبل الفريق الطبي إلا إذا ثبت عدم فائدته في استعادة حياة مستقرة. وكذلك لا ينبغي أن ينزع من قبل المريض أو أوليائه إلا إذا غلب ضره نفعه أو لم يرجى به العودة إلى حياة مستقرة كريمة. 

لا ينزع جهاز التنفس الصناعي عن بعض الناس لفائدة البعض إلا بسبب مقبول، فإن القاعدة أن "الضرر لا يزال بمثله،" وقد تقرر أنه لا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر. من الأسباب المقبولة لنزع الجهاز عن البعض لفائدة الآخرين أن يكون جرب على الأول ولم تظهر فائدته، أو ظن كونه أنفع للثاني الذي تشتد إليه حاجته، فإن قاعدة "درء المفاسد أَولى من جلب المصالح" مشروطة باستواء المصلحة والمفسدة، أما عند تفاوتهما، فيقول تاج الدين السبكي - رحمه الله: " درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ويستثنى مسائل يرجع حاصل مجموعها إلى أن المصلحة إذا عظم وقوعها، وكان وقع المفسدة أخف، كانت المصلحة أولى بالاعتبار".

يجوز لبعض الناس إيثار الغير على أنفسهم، فيما لم يتعين سبيلًا للنجاة، وإن حسنت النوايا يؤجر صاحبه، وفي تراثنا من أمثلة هذا الإيثار ما هو معرف. أما إيثار المضطر مضطرًا غيره بما تعين سبيلًا لحفظ النفس، ففيه خلاف، ولعل الأمر يترك إلى ما بين الناس من وشائج وصلات، فلا يتصور أن يعاب على والد إيثار ولده بما فيه حفظ نفسه، فضلًا عن أن يكون ذلك حرامًا. 

عند شح مستلزمات الحماية الطبية، يجوز للعاملين بالقطاع الطبي من المسلمين الترخص لتوفيرها، كأن يأخذوا من لحاهم أو يحلقوها عند الحاجة إلى ذلك وعدم توافر الكمامات التي لا يتطلب استعمالها ذلك، وكأن يجمعوا بين الصلوات أو يتيمموا عند تحقق الحاجة إلى ذلك، توفيرًا لهذه المستلزمات، إن كان نزعها يعني بالضرورة إتلافها. 

لا يحل لأحد ممارسة الطب بغير إذن من السلطات، وقد قال رسول الله "من تطبب ولم يعلم منه طب، فهو ضامن." لكن يسوغ للجهات المعنية التصريح المؤقت للبعض بالممارسة، سواء خارج تخصصهم، أو ممن تقاعدوا، أو ممن شارفوا على الانتهاء من الدراسة، وذلك لأن "المشقة تجلب التيسير."

وختامًا: هذه التوصيات هي مقتضى فهمنا لأصول الدين وقواعد الشريعة، وعلى العاملين بالقطاع الطبي في هذه البلاد الالتزام بما تقرره الجهات المعنية بهذا الشأن، وبمطالعة ما هو شائع من الأخلاقيات الطبية في بلادنا هذه، فإنه لا حرج عليهم في ذلك غالبًا، فليس فيها محظور شرعي باتفاق، بل هناك توافق في المسائل الكبرى قد يعود إلى كون أصول الأديان السماوية واحدًا أو إلى ما حباه الله للناس من التمييز بين الحسن والقبيح. لكن، إن ظهر للطبيب المسلم من تعليمات جهة عمله ما يتعارض مع قناعاته الشرعية، فينبغي له عندها أن يحتمي بالقوانين واللوائح التي تمكنه من الامتناع عما هو مخالف لقناعاته الدينية، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك." 

نسأل الله العافية لعموم الناس، ونعبر عن بالغ امتناننا للعاملين بالقطاع الطبي على جهودهم العظيمة المتفانية ونرجو من الله أن يعينهم على ما اختارهم له، وأن يلهمهم السداد والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين.